الاستراحة

"مالكوم إكس".. قصة رحلة الحج التى غيرت مسار زعيم المافيا

في مجتمع تواطأت أسبابه جميعا ضده وضد عائلته -فقط- لكون بشرتهم داكنة أكثر من المواطنين الآخرين، وفي بيئة ساهمت بكل عواملها في تنشيط انحرافه، نشأ الأميركي “مالكوم إكس” صاحب التحولات الثلاثة بين الانحراف والإيمان[1]، وفي قرابة العقدين -من سنواته الأربعين- مرّ “مالكوم” في رحلاته الفكرية بمواقف مفصلية كانت تتنقل به بينها في سرعة ووضوح.

“ها هو ذا القطار الأسود الصغير قادم، ومن الأفضل لك أن تكون جاهزا له”[2]، تلك هي مقولة أبيه -المقتول على يد المتطرفين البِيض- التي رادوته في كل أفكاره، وذلك القطار هو الذي تنقل فيه من “مالكوم ليتل”، إلى “مالكوم إكس”، ولم يتركه حتى أوصله إلى محطة “الحاج مالك شباز” ليعرف الخلاص الذي بحث عنه، فـ “قطار الخلاص آت إذن لا محالة ولا بأس من قليل من الانتظار على أن نكون جاهزين له عند وصوله”[3].
فلو اعتبرنا مرحلة السجن الإجبارية هي من حوّلت “مالكوم” من فتى طائش تملّكه الإجرام -بأنواعه- إلى رجل راشد يناضل في سبيل بني جنسه من الأميركان السود، فإن مرحلة الحج الاختيارية هي من نقلت “مالكوم” من ضيق جماعة “أمة الإسلام” إلى سعة أمة الإسلام نفسها. فعلى إثر خلافات نشبت بين “مالكوم” و”إليجا محمد” -مؤسس تلك الجماعة- قرر الأول ترك “أميركا” والذهاب في رحلة دينية لممارسة شعيرة الحج، ليكتشف بعدها “مالكوم” أن إسلامه الذي كان عليه غير هذا الذي هو ذاهب إليه[*]. فكيف عرف “مالكوم” بالحج، وما الذي حدث له حينما تحرك إليه؟
الحج؟! ما الحج؟
في مذكّراته، يذكر “مالكوم” أولى خبراته مع إسلام العالم -لا إسلام الرجل الأسود- حينما كان يأتيه الطلاب العرب -وغيرهم- بعد محاضراته في أميركا ليخبروه أن إدانته للجنس الأبيض تتنافى مع حسن إسلامه، وأنه لو تسنّت له معرفة الإسلام الحقيقي لفهمه واقتنع به. لكنه -كما يعلّق- كان ينفر من هذا الكلام لتنافيه مع معتقداته التي بذرها “إليجا محمد” في عقله عن الإسلام الذي يتبناه.
هل دام ذلك طويلا؟ تبدو الإجابة سريعة في الجملة التالية من حكاية “إكس” حينما وجد هذا الاعتراض يتكرر كثيرا، فيقول: “بدأت أراجع نفسي وأقول: إذا كان إيمان المرء بدينه صادقا حقا، فلِمَ لا يوسّع معرفته بهذا الدين؟”. الأمر الذي دفعه فيما بعد إلى مقابلة الدكتور “محمود يوسف شواربي” -بعد تزكية من أحد طلابه- وهو عالم مسلم تخرج في جامعة القاهرة وحصل على الدكتوراه من جامعة لندن ويحاضر عن الإسلام في أميركا.
ذهب “مالكوم” إلى الدكتور “شواربي” الذي أعطاه رسالة التزكية لدخول أراضي الحجاز، إذ أبلغه السفير أن مسلمي أميركا بحاجة إلى تزكية “شواربي” الذي أعطاه بدوره هاتف مستشار الملك “فيصل” آنذاك “عبد الرحمن عزام” وأهداه كتابا كان الأخير قد ألّفه وأرسل منه نسخة إلى “مالكوم” على وجه الخصوص.
من هنا عرف “مالكوم” الحج، بالتزامن مع أزمته مع منظمة أمة الإسلام، ويروي خلال رحلته العديد من المواقف التي أثارت دهشته تارة، وإعجابه تارة أخرى. ومن نيويورك إلى فرانكفورت، ثم القاهرة فجدة، تعرّض الرجل الأسمر إلى كثير من المسلمين بمختلف ثقافاتهم لتتسع لديه الرؤية من جديد، وتفاجئه الحفاوة التي لقيها من مستشار الملك فور اتصاله به -بعد أزمة في مطار جدة- بأكثر الأشياء التي غابت عنه أهمية وهي أن إسلام “إليجا محمد” لا يعبر عن الإسلام الذي يراه الآن.
“كانت ألوف الحجاج تغادر مطار القاهرة وهي على تلك الهيئة التي لا يمكن فيها التمييز بين الغني والفقير”
في الطريق من القاهرة للسعودية يحكي “مالكوم” عن الطيّار ومساعده اللذين استقبلاه في غرفة القيادة، وكان لهما لون بشرته نفسها. وفي جدّة -حيث احتُجز لفترة بسيطة كونه قادما من أميركا- تعلّم “مالكوم” الصلاة للمرة الأولى حيث دهش من نفسه قائلا: “تصور! كنت رجل دين مسلما وزعيما في أمة إسلام إليجا محمد ولم أكن أعرف كيف أصلي!”[4].
مكّنه هذا التفاعل الشخصي مع المسلمين من فهم المعاني الثورية للمفهوم الإسلامي عن وحدانية الله[5]. فالبيض الذين يقفون أمام الإله الواحد ليسوا أناسا بيض البشرة وإنما كائنات بشرية كاملة. ولقد وقف “مالكوم” الأفرو-أميركي أمام “خالق الجميع وشعر أنه كائن بشري كامل.. لقد استطاع الإحساس بهذا التكامل الإنساني لأن وحدانية الله تعني قبول وتساوي كافة البشر أمامه”[6].
وفي مكة، حيث استقر به المطاف أخيرا، بحث المناضل الأميركي -الذي يُجري مناسك إسلامه الحقيقي- عن عالم البراءة التي يفتقدها، وهناك وجد ما لم يكن يعلمه عن دينه الذي لم يكن كاملا. فالإسلام لم يكن دين السود فقط كما زعم “إليجا” وجماعته، وإنما هو دين البشر جميعا، ففي الحج وجد “مالكوم” الأبيض والأسود، فقضى “بمكة اثني عشر يوما هاله ما رآه فيها من مسلمين بيض وسود كلهم على قلب رجل واحد وبينهم كل أحاسيس المساواة والمحبة”[7].
عالم البراءة.. لبيك اللهم لبيك!
“في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أميركا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها”
[مالكوم إكس]
تأثّر مالكوم تأثرا شديدا بمشهد الكعبة وأصوات التلبية وبساطة وإخاء المسلمين، “فرأى الإسلام الصحيح عن كثب وتعرف على حقيقته، وأدرك ضلال المذهب العنصري الذي كان يعتنقه ويدعو إليه، كما تعلم هناك الصلاة الصحيحة التي كان يجهلها تماما”[8]، وبعد عدد من اللقاءات مع أعلام إسلامية وسياسية في المنطقة العربية، خلص “مالكوم”، أو الحاج “مالك شباز” كما أطلق على نفسه بعد رحلته، أن “إدانة كل البيض تساوي إدانة كل السود”[9].
ففي العالم العربي/الإسلامي وجد “مالكوم” حلم البراءة التي بحث عنها، وعرف الإسلام الذي أُنزِل على حقيقته، لكن لم يكن الوطن العربي هو الفردوس الذي بحث عنه “مالكوم”؛ لأن “لكل وطن جوانبه المظلمة، شأنه في هذا شأن أي بقعة أخرى في العالم. ولكن “مالكوم” كان يتعامل مع هذا الوطن العربي من منظوره هو، كأميركي أسود، يعاني ويلات التفرقة العنصرية”[10].
لهذا السبب استطاع “مالكوم” أن يجد في العالم العربي الإسلامي تحقيقا جزئيا لحلمه بالبراءة وبعالم خالٍ من التفرقة العنصرية، وكذا “يمكن رؤية بناء السيرة الذاتية ككل على أنه تجسيد لتطور مالكوم من كونه إنسانا ماديا لا روح له ولا ضمير، إلى إنسان قادر على اكتشاف “نزعات مثالية” في نفسه”[10]. فهي رحلة -كما وصفها “المسيري”- ولّدتها النزعة المثالية الثورية لدى “مالكوم”، فكان وقودها الدائم حنينا إلى عالم من العدالة والمساواة لم يرَه مالكوم ولكنه أنصت بقلبه ووجدانه لذلك الحنين الفطري الذي يحمله تجاه عالم من البراءة والحرية، وهذا ما وجده في مكة.
يقول “مالكوم” في هذا: “خلال الاثني عشر يوما التي قضيتها في العالم الإسلامي أكلت من إناء واحد وشربت من كأس واحدة ونمت على سجاد واحد وأنا أعبد ربا واحدا مع مسلمين عيونهم زرقاء وشعورهم شقراء وجلدهم أبيض.. رجال وجدت في إخلاصهم الإخلاص نفسه الذي وجدته عند المسلمين السود القادمين من نيجيريا والسودان وغانا.. وأذكر ليلة نمنا فيها في المزدلفة تحت السماء واكتشفت أن الحجاج المنتمين إلى كل أرض ولون وطبقة ورتبة، الموظفين السامين منهم والمتسولين على السوء، كلهم يُغطّون بلفة واحدة”[11].
وفي رسالة، أرسلها من مقرّ حجّته إلى أسرته وأقرانه بأميركا، يقول: “قد يدهشكم ما سأقوله ولكن ما رأيته وعشته في هذه الحجة قلب أفكاري وجعلني أتخلص بسهولة من بعض استنتاجاتي السابقة”[12]، لقد كان هذا عالم البراءة والحنين إليه الذي اقتلع “إكس” من جميع أفكاره.
فإذا كان الحلم بالبراءة والمثل الأعلى في الأدب والفلسفات القديمة، هو -كما يرى “المسيري”- نسقا فكريا خاليا من أي صراعات أو توترات؛ لأنه حلم لا تاريخي وأسطوري ومجرد إمكانية نظرية، فإن حلم البراءة لدى “مالكوم” الثائر يختلف تماما، إذ إنه “يضرب جذوره في الواقع ويكتسب قوته وفعاليته من أنه ينبع من الواقع ويعود إليه وأنه في نهاية الأمر قابل للتحقيق”[13]، وهذا ما سعى الحاج “مالك شباز” لتفعيله على أرض الواقع.
من مكة إلى الإسلام
رحب مالكوم بالنتيجة الحتمية لرؤيته الإسلامية الجديدة، ليبدأ رفضه الجديد للأسطورة الزائفة التي تروج لها جماعة “إليجا محمد” الخاصة بالمسلمين السود، والتي تقول إن الرجل الأبيض هو الشيطان! “أي إنه بلغ من السماحة والتحرر من العرقية أنه رفض العنصرية ومقلوبها، ورأى أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى والعقل الإنساني الفاضل”[14].

مرّ “مالكوم” في رحلة عودته، أو الحاج “مالك شباز” كما أطلق على نفسه، على لبنان ليلقي بعضا من محاضراته هناك، ليلقى ترحيبا غير مسبوق حتى من السود الأميركان، ومن بيروت إلى القاهرة، ثم نيجيريا ليلتقي مع عدد كبير من الشخصيات -والمواطنين- المسلمين، وينفتح على أمته كثيرا بعدما قضى اثني عشر عاما يحسب أن جماعة أمة الإسلام هي أمته الوحيدة وحسب.
اكتشف وهو يسير بين الجماهير الأفرو أميركية أن هذه الجماعة كان بمقدورها أن تكون قوة ذات فعالية إن هي ساهمت بشكل أكثر فعالية في الصراع الشامل للجماهير، لكن حينما فشلت جهوده في إعادة تكييف الجماعة مع مقتضيات الحركة الاجتماعية، قرر -بعد عودته من الحجاز- أن يبني تنظيمه الخاص الذي يقوم بتطبيق ما تنادي به جماعة المسلمين السود دون ممارسة، “لقد كان مالكوم متحمسا لإسلامه بدرجة جعلته أكثر من مجرد كاهن”[15].
“لقد وسّع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسعٍ وثلاثين سنة”

 لقد تصحّحت عقيدة الخطيب الأميركي المُفوّه بعد اثني عشر عاما من الانحراف المرتبط اسما -فقط- بالإسلام، فقط بسبب الحج الذي أعتقه من رؤيته الأحادية للبشر (أبيض شيطان وأسود مسكين)، فـ “مالكوم” الذي عانى من عنصرية بيضاء قد مارس -بعد انضمامه إلى جماعته- نوعا عكسيا من العنصرية تجاه ذوي البشرة البيضاء جعلته يرفض حتى مساعدة المتعاطفين منهم له في دعوته.
ذلك الرجل هو نفسه “مالكوم” الذي أرسل إلى زوجته من الأراضي المقدسة يخبرها[16] أن جميع مشاكل أميركا العنصرية لا يمكن لها أن تحل إلا بتعاليم الإسلام العظيم الذي يصلي فيه بجانب رجل أبيض خلف رجل أسود، ويأكل في رحابه من الطبق نفسه الذي يأكل منه رجل بعينين زرقاوين ويشرب من الكأس التي يشرب منها شيخ عربي ببشرة فاتحة.
لقد شعر “مالكوم” بخلاصه الروحي من ثِقل العداء الذي سيطر على حياته طيلة 39 عاما، وإن اختلفت الأسماء والأسباب، لقد اشتعل فكره الثوري المناضل في سبيل حقوق السود في بلاده ولكن هذه المرة دون حقد سابق ومطلق تجاه الجنس الأبيض. لقد علّمه الحج أن البشر سواء ولا أفضلية ظاهرية لأحدهم على الآخر، وإنما البواطن هي من ترفع الناس أو تفعل بهم العكس.
هذا هو “مالكوم – مالك شباز” كما تشرحه سيرته: سلسلة من التحولات الجذرية والأسئلة الصعبة التي لم يجد ترددا كبيرا في الإجابة عنها، فمن حياة الإجرام إلى الإيمان، ومن الإيمان المنحرف إلى الإيمان المستقيم، استطاع “شباز” الانتقال بمنتهى الحسم بين مراحله الثلاث، والتي لم تدم آخرها سوى عام واحد. لكنه بدا خلال هذا العام شجاعا، متفانيا في حب ما يفعله، مصرّحا بإيمان تام: “لقد وصلت إلى هذه القناعة بعد تجربة شاقة ولكنني وصلت إليها”[17].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى