الجمهورية الأسبوعى» يفتح النقاش حول دور السينما فى مصر «1» القاهرة الخديوية «برودواى» الشرق
دور السينما فى وسط القاهرة.. لم تكن مجرد أبنية فقط لكنها كانت بمثابة أبواب الدخول إلى عالم السحر والخيال، ومازالت شاهدا حيا على كل المتغيرات التى لحقت بالقاهرة الخديوية منذ فترة العشرينيات وحتى الآن.
ودور العرض السينمائى فى وسط القاهرة مرت بمحطات كثيرة ظهرت فيها مثل قاعات أوبرا ملكية شديدة الفخامة والضخامة، وتحلت معها وسط البلد فى القاهرة الخديوية إلى «برودواي» الشرق الأوسط، وكانت شوارع عماد الدين وسليمان باشا «طلعت حرب حاليا» وميدان الأوبرا بالعتبة وشارع قصر النيل، إلى هوليوود الشرق، تحولت الشوارع إلى ساحة للفنون ومناطق للترفيه، وكان الاستثمار فى بناء واستئجار دور السينما فى وسط البلد استثمارا ناجحا وجاذبا للأجانب من كل الجنسيات.. حيث إن أغلب دور العرض السينمائية والمسرحية فى المنطقة الواقعة بين جاردن سيتى وميدان باب الحديد «رمسيس حاليا» أقامها الأجانب فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات.
فى 5 نوفمبر العام 1896.. وكالعادة شهدت الإسكندرية أول عرض سينمائى فى مصر بعد سنة واحدة من أول عرض سينمائى فى العالم بباريس.. واستضافت العرض بورصة «طوسون باشا».. وكان المبنى مكونا من عدة طوابق، ويتكون كل طابق من عدة صالات مختلفة المساحة والأغراض، كان يتم استخدامها فى الاحتفالات أو حفلات الرقص للجاليات الأجنبية فى الإسكندرية فى هذا الوقت، ومقرها فى شارع الباب الجديد بالإسكندرية.
الصور المتحركة
وكانت البداية عام 1906 حين شهد وسط القاهرة عروض الصور المتحركة لأول مرة فى المقاهى الفاخرة.. وكان هناك مكانان اشتهرا بتقديم أمسيات عروض الصور المتحركة، وهما: مطعم رستوران «سانتي»، ومقهى «الشانزليزيه» فى منطقة الأزبكية.. وكانت هذه البدايات هى البذرة التى جعلتنا نشهد فى نهاية هذا العام ميلاد دارين للسينما مخصصتين لهذا الغرض فى الإسكندرية «سينمافون عزيز ودوريس» ودار أخرى فى القاهرة «سينماتوغراف اكسلسيور.
ولم يقف هذا الإشعاع عند القاهرة.. فى ديسمبر 1907 افتتحت أول دار سينما «سينماتوغراف ايربانورا» فى المنصورة، ووصلت عروض الصور المتحركة حتى قلب إلى صعيد مصر فى مدينة سوهاج فى عام 1908.
أول عروض ناطقة
وفى الإسكندرية بدأت محال «عزيز ودوريس» فى تقديم أول عروض سينمائية ناطقة قصيرة، وقامت نفس المحال بتصوير الاحتفالات الرياضية بمدرسة سانت كاترين عام 1907، وهو أول إلقاء للضوء على الأنشطة الرياضية من جانب سينمائي.. وظلت عروض الصور المتحركة لبعض السنوات جزءًا مكملاً لما كان يُعرف بمسرح المنوعات الذى يقدم الموسيقى والرقص والمسرحيات القصيرة.. كانت هذه الأماكن هى مقصد الطبقة الراقية، مثل فندق «سان استيفانو» فى الإسكندرية و»البتى تريانون» فى شارع سليمان باشا فى القاهرة و»هليوبوليس هاوس» فى هليوبوليس، مشهورة بتقديم هذه البرامج.
السينما الشعبية
وشهد عاما 1909 و1910 تأسيس دور سينما جديدة فى أماكن أبعد وأكثر شعبية مثل: «سينماتوغراف كولومبي» فى حى الظاهر (1909)، و»سينماتوغراف رويال (1909)» و»جراند سينماتوغراف (1910)» فى حى شبرا، وسينما «الكلوب المصرى (1910)» فى حى الحسين لتنتقل دور السينما وعروض التسلية والصور المتحركة من وسط القاهرة آلة حولها من مناطق لكن بدأ يظهر نوع من التميز بين دور السينما الدرجة الأولى فى وسط المدينة «فى الأزبكية وعماد الدين» التى كان معظم روادها من الطبقة العليا، وبين دور السينما من الدرجة الثانية فى أحياء الطبقة الوسطى والأحياء الشعبية التى كان يرتادها أهالى الطبقة الوسطى ومن الطبيعى اختلاف أسعار التذاكر فى دور سينما الدرجة الأولى فى عام 1908 وكانت : لوج «40 قرشـًا للفرد»، فوتيل «7 قروش»، صالة للكبار «4 قروش»، صالة للصغار «قرشان».. وبدأ يتضاعف عدد دور السينما فى القاهرة والإسكندرية ومدن الأقاليم بسرعة فى الفترة من 1917 إلى 1927، ففى عامى 1917 و1918 وحدهما تأسست أربع دور سينما فخمة جديدة فى شارع عماد الدين: «سينما لندن (1917)»، و»سينماتوغراف أوبليسك (1917)»، و»سينما بيكاديللى (1918)»، و»سينماتوغراف كوليزيوم (1918)».
ويقول مؤرخو السينما إن سنة 1927 كانت سنة ذروة أخرى فى إنشاء دور السينما فى القاهرة ومدن الأقاليم؛ حيث افتتحت فى القاهرة أربع دور جديدة: «نيو جاردن» فى شارع عماد الدين، وسينما «جروبي» فى شارع سليمان باشا، و»جوزى بالاس» و»جومون بالاس».. وفى مدن الأقاليم فتحت المزيد من دور السينما أبوابها للجمهور: سينما «باتيناج» فى طنطا، وسينما «عدن» فى المنصورة، وسينما «أبولون» فى ميت غمر، وسينما «بالاس» فى المنيا، وفى سنة 1929 افتتحت دور سينما جديدة أيضـًا فى السويس وأسيوط ودسوق.
وكان تقديم ترجمة عربية على الأفلام الأجنبية فى عام 1912 حدثـًا مهمـًا؛ إذ إنه وسَّع بشكل كبير جمهور المشاهدين للأفلام التى كانت حتى ذلك الحين مقصورة على الأفلام الأجنبية.
ومع تزايد الإقبال على الذهاب لدور السينما، أصبح بناء هذه العروض مثار اهتمام الاجانب فى مصر لبناء دور سينما كبيرة تستوعب الأعداد الأكبر من المشاهدين فى الأحياء الشعبية مثل دار «اجبشيان سينما هاوس (1912)» فى شارع إبراهيم فى الإسكندرية والتى كانت تتسع لـ1200 مشاهداً، وسينما «كولوزيوم (1918)» فى شارع بولاق بالقاهرة التى كان يمكن أن تستوعب 200 مشاهد.
غضب فى الصحافة
فى عام 1916 نشرت الصحف تقارير ومقالات تدعو إلى فرض نوع من الرقابة على برامج «الصور المتحركة» لحذف المشاهد «غير اللائقة» المتصلة بالجريمة والرذيلة.
وكانت السينما فى مراحلها الأولى محصورة فى الأفلام الوثائقية «التسجيلية» القصيرة، ولكن ما لبثت الأفلام الأطول القائمة على أساس الروايات الكلاسيكية أن عُرِضت فى دور السينما المصرية، ففى سنة 1910 عرضت أفلام «البؤساء» عن رواية فكتور هوجو، و»كليوباترا» و»كوفاديس» و»غادة الكاميليا».
أول ممثل مصري
ويعد الفنان محمد كريم أول ممثل سينمائى مصرى ظهر عام 1917 فى فيلمين قصيرين هما: «شرف البدوي» و»الأزهار المميتة». وفى عام 1919 قدم فوزى الجزايرلى أول فيلم روائى قصير بعنوان «مدام لوريتا»، وتبعه على الكسار، وأمين صدقى بفيلم «الخالة الأمريكانية» ليكون ثانى فيلم روائى مصرى قصير، وبتأسيس «شركة مصر للتمثيل والسينما» عام 1925، أخذت السينما المصرية تقدم العديد من الأفلام بنجوم وفنيين مصريين. بدأ الجيل الأول من الأفلام الصامتة المصرية فى عام 1923 بفيلم «فى بلاد توت عنخ آمون» ووصل إلى ذروته بفيلم «زينب» عام 1930 المأخوذ عن رواية لمحمد حسين هيكل ومن إنتاج يوسف وهبى وإخراج محمد كرَّيم. من أبرز محطات المرحلة الأولى فى سينما اليوم وهى السينما الروائية الطويلة، ظهر فيلما «قبلة فى الصحراء» فى مايو 1927، تلاه فى نوفمبر من نفس العام فيلم «ليلي» إخراج «استيفان روستي».. وخلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وجدنا العديد من المبدعين وصناع السينما الذين قدموا نشاطـًا ملموسـًا فى الإسكندرية، عبر استوديوهات أقاموها فى المدينة (سيتشيا- ألفيزى أورفانيللى – لاما – توجو مزراحي)، وإلى جانب هذا كانت هناك محاولات لأفراد فى نفس المضمار.
أدى هذا النشاط فى بدايات صناعة السينما فى هوليوود الشرق إلى ازدياد فى صالات ودور العرض السينمائي، ولم تتوقف حركة الأفلام الوافدة من الخارج وتطلب ذلك بالتبعية إنشاء منظومة إدارية واعية تعمل نحو تنظيم الحركة السينمائية.
والنتيجة ظهور شركات إنتاج وتوزيع أجنبي- مصري، وهى شركات يمتلكها أفراد أو تجمع لأكثر من فرد، كانت لديهم الأموال وخبرات السوق التجارية لخبرتهم فى مجالات تجارية وصناعية متنوعة، لكنهم وجدوا فى النشاط السينمائى المتزايد فرصة لإضافة أنشطة وأرباح أخري، إضافة إلى البريق والاهتمام بهذا النشاط الجديد داخل أوساط المجتمع بكافة شرائحه الاجتماعية. وقد تخصصت بعض من هذه الشركات فى توزيع أفلام لدول بعينها، وشركات أخرى لأكثر من دولة منها: فلاديمير أندرياس، رياما اليشنسكي، وأندريه صليب، ومنتخبات بهنا فيلم.
لكن الميلاد الحقيقى والطفرة الكبيرة للإنتاج السينمائى المصري، ارتبط بإنشاء وافتتاح «استوديو مصر» فى السابع من مارس عام 1935. أنشئ الاستوديو، الذى حمل اسم مصر كبقية مشروعات الاقتصادى الوطنى طلعت حرب باشا. جاء برأسمال مصرى خالص، كأحد مشروعات شركة «مصر للتمثيل والسينما»، التى أسسها طلعت باشا فى العام 1925، وكثالث شركات بنك مصر، بعد المطبعة وشركة حلج القطن. وكان طلعت حرب يؤمن بأن تجديد الاقتصاد فى بلد زراعى كمصر لن يتم إلا إذا ازدهرت الثقافة، ودعمت بالاستثمار فيها. وكان رجل الاقتصاد الأول فى مصر يؤكد دومـًا أهمية السينما وخطورة دورها: «إننا نعمل بقوة واعتقاد فى أن السينما صرح عصرى للتعليم لا غنى لمصر عن استخدامه فى إرشاد سواد الناس».
وبسبب جهود طلعت حرب بدأ الصرح السينمائى يتطور فى مختلف المجالات الفنية والبشرية والتكنولوجية المتعلقة بصناع السينما، وصناعتها كمجالات الديكور والتصوير والمونتاج، فضلًا عن البلاتوهات المخصصة للتصوير. ففى باكورة أعماله، أنتج «استوديو مصر» فيلمـًا قصيرًا لمدة عشر دقائق للإعلان عن المنتجات المصرية. كما أنتج نشرة أخبار أسبوعية عن الأحداث فى مصر يتم عرضها قبل بداية أى فيلم. أنتج الاستوديو فيلم «وداد» عام 1936 إخراج فريتز كرامب، وأول فيلم من تمثيل أم كلثوم. نجح الشريط السينمائى بشكل رسَّخ أقدام الفن السابع فى مصر، ما شجَّع على إنتاج أفلام جديدة لم تقل فى أهميتها عن الفيلم الأول. فكان فيلم «سلامة فى خير 7391»، لنجيب الريحاني، وإخراج نيازى مصطفي، وفيلم «لاشين» إخراج فريتز كرامب 1938، ثم فيلم «العزيمة» 1939 من إخراج كمال سليم، كإحدى المحطات المهمة فى تلك الفترة. ليس هذا فحسب، بل يُحسب لاستوديو مصر أنه صوَّر استعدادات القصر الملكى لزواج الملك فاروق والملكة فريدة عام 1938، وقدمها إلى دور العرض، لتظل النسخة الوحيدة والفريدة التى وثقت الحدث. هذا إلى جانب أفلام من إنتاج شركات أخرى تم تصويرها فى الاستوديو، ومنها «يحيا الحب»، و»دنانير»، و»رصاصة فى القلب»، و»أحمر شفايف»، و»قلبى دليلي». وأرسل استوديو مصر بعثات فنية إلى أوروبا لتعلم فنون الإخراج والتصوير والديكور والمونتاج والمكياج، فسافر أحمد بدرخان، وموريس كساب «إخراج»، وحسن مراد، ومحمد عبدالعظيم «تصوير»، وولى الدين سامح «ديكور»، ونيازى مصطفى «مونتاج»، ومصطفى والى «صوت».. كما تم تعيين الفنان أحمد سالم مديرًا للاستوديو.
وبسبب هذه الجهود زاد انتشار دور العرض التى ارتفع عددها من 50 دارًا فقط فى عام 1929، إلى نحو 100 دار عرض عام 1944، ثم ارتفع الرقم إلى 315 دارًا فى عام 1952.. أما عدد الذين يرتادون دور العرض لمشاهدة الأفلام سنويًا فكان 12 مليونـًا عام 1938، ليصبح 92 مليون فرد عام 1951، علمـًا بأن عدد المصريين لم يتجاوز 22 مليون فرد عام 1952.