الاستراحة

علم نفس القلق.. كيف ترصد المصائب قبل وقوعها؟


“لست في حاجة إلى تقديم القلق لكم، فكل منا قد ابتلي بهذا الشعور، والحق أقول لكم إنه حالة وجدانية نشعر بها بأنفسنا وتعاودنا مرة تلو الأخرى”. (سيجموند فرويد)

  
في قاعة الامتحان الواقعة بالطابق الثالث من مبنى “جروستون” لعلم النفس، تقف الطالبة “سو برنار” على أعتاب القاعة، وتتوجه خائفةً، متوجسةً، إلى مقعدها، لتجد، على الرغم من دراستها الجادة والطويلة لعلم النفس البيولوجي، أن امتحانها الذي تواجهه الآن أكثر صعوبةً من إحراز ميدالية أوليمبية في العدو لسلحفاة بحرية.
  
بدأ قلب “سو” بالخفقان مع تسلم ورقة الامتحان، مسترجعة ذكرياتها في التعامل مع مجموعة مذهلة من المصطلحات، والمفاهيم، والعمليات، والمناهج الجديدة في الكتب المتخصصة والمحاضرات، والتي لم تشفع لها في تلك اللحظة عند خوفها غير المبرر، فبدأت في التعرّق المطّرد مع مطالعة الأسئلة، وانتباها التوتر الحاد ليشتتها بين التركيز في امتحانها والانشغال بمخاوفها حول الفشل.
 يمر الوقت، وتقل فرص “سو” في السيطرة على الأمور مع زيادة حدة التوتر، الأمر الذي استهلك النصيب الأكبر من طاقتها الذهنية لمواجهة انفعالاتها واضطرابها المذموم، وبدلًا من الانشغال بتوفيق معرفتها مع الأسئلة بدأت في القلق حول الخيارات المهنية المتاحة لها في حالة الفشل. أنهت امتحانها وسلّمت الورقة، ورحلت دون أن تراجع كلمةً مما خطّت في إجاباتها.
  
بهذه القصة، يفتتح الكاتبان “موشي زيدنر” و”جيراند ماثيوس” أحد فصول كتابهما “القلق”. ذلك الشعور القادر على تحويل الاستعداد الضخم لهباء لا وزن له، فيجعل الطالبة المتفوقة، شديدة الاجتهاد، أقل قدرةً في التعامل مع اختبارها من فتاة لا تعرف عن مناهجها غير اسمها. ما الذي حدث؟ ولماذا يحدث من الأصل؟ لعلنا نبحث عن الإجابة بين السطور.
  

يرى “فرويد” أن القلق شعور اضطرابي، ينشأ تلقائيًا كلما طغى على النفس وابل من المثيرات الشديدة التي لا يمكن السيطرة عليها

   
في أواخر القرن التاسع عشر سطع نجم “فرويد”، بمدرسته في التحليل النفسي، مما جعله من من أوائل من تحدثوا عن القلق بنظرة سيكولوجية في علم النفس الحديث، بل إن البعض يرى أن هذا المفهوم لم يشع استخدامه إلا عندما شاع في كتابات “فرويد”[1]، حيث يعود الفضل إليه في توجيه علماء النفس إلى الدور الهام الذي يلعبه القلق في حياة الإنسان من ناحية ديناميات الشخصية والنظريات الارتقائية[2].
  
ويرى رائد التحليل النفسي أن القلق شعور اضطرابي، ينشأ تلقائيًا كلما طغى على النفس وابل من المثيرات الشديدة التي لا يمكن السيطرة عليها أو التخلص منها، كما تطرّق في تفسيره إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من القلق، اعتبر أحدها سويًا، بينما رأى في الاثنين الآخرين صورةً غير صحية من القلق[3].
  
ويبدأ “فرويد” بالقلق الموضوعي، وهو القلق الناتج عن إدراك المرء لخطر محدق يتهدده، فيكون “للقلق في هذه الحالة وظيفة إعداد الفرد لمقابلة هذا الخطر بالقضاء عليه أو تجنبه أو اتباع أساليب دفاعية إزاءه”[4]، فهو النوع المثار بفعل إدراك الأنا/الذات الواقعية لمثير يشكل خطرًا موضوعيًا كأن يلقى الشخص حيوانًا مفترسًا أو يواجه حريقًا في مكان ما.
  
أما الصنف الثاني -حسب “فرويد”- فيندرج تحت مسمى القلق العصابي، وهو القلق الذي لا يُعرَف له سبب، إلا أنه موجود وملموس بآثاره الفسيولوجية والنفسية، ويرى عالم النفس النمساوي أن هذا النوع يحدث عندما تشعر الأنا بأنها مهددة بالطغيان عليها من خلال الإلحاحات والدفعات الشهوانية النابعة من الهو/الشهوات، مما يدفع الأنا لكبح هذه الاندفاعات، ومن ثم كبح القلق المثار، والذي لا ينتج خوفًا من إلحاح الهو بقدر ما يثيره الخوف من العقاب الناتج عن الانصياع لها.
  
أي أن القلق العصابي يظهر عند وجود تهديد غير معروف للأنا، وهو ما يجعل المعاناة منه أكثر بكثير من القلق العادي؛ لصعوبة تحديد مصدره. وقد قسّم “فرويد” هذا النوع من القلق إلى أقسام ثلاثة: قلق عام، لا يرتبط بموضوع معين وإنما هو شعور غامض بتوقع الشر والتشاؤم، وقلق المخاوف المرضية، كرهاب الأماكن المرتفعة والخوف من المَساحات المغلقة/الواسعة، وهي مخاوف لا تبدو معقولة حتى للمريض نفسه، إلا أنه يصعب عليه التخلص منها بمفرده. وأخيرًا قلق الهيستريا المعروف.
ثم ينتقل “فرويد” إلى النوع الثالث وهو القلق الأخلاقي، كما اصطلح عليه، والذي يعرّفه على إنه معاناة ناتجة عن تهديد الهو للقيم الأخلاقية، فينشأ “القلق الأخلاقي من خلال الصراع الحادث بين إلحاحات واندفاعات الهو من ناحية، والمعايير الأخلاقية والمثلى للمجتمع التي تمثلها الأنا الأعلى من ناحية أخرى.. ويعد العقاب الواقع من قِبل الأنا الأعلى هو أصل القلق الأخلاقي”[5].
وتجدر الإِشارة إلى أن “فرويد” كان يعتبر القلق في البداية وسيلة دفاعية يتبعها الفرد لتخفيف طاقة الليبيدو/الشهوة التي جرى حظرها أو منعها من الظهور المباشر، أي أن القلق ناتج عن الرغبات الجنسية غير المشبعة أو غير المقبولة[6]، وهو في ذلك لا يختلف عن تفسيراته الأخرى التي يقول عنها “تايرر”[7]، أنه كلما كان “فرويد” يتحرك في الأنفاق الملتوية للتفسيرات المحتملة لحالات مرضاه، كان دائمًا ما ينتهي به الأمر في النفق المعروف بالجنس.
غير أنه وبعد ثلاثة عقود، عاد فرويد لمراجعة تفسيراته عن القلق، فذهب إلى أن تفسيره بالدوافع الليبيدية كان خاطئًا، وأن القلق سببه كبت وقمع الدوافع البغيضة، “كما أنه ينذر بوجود خطر وشيك، أو تهديد أو صراع داخلي، هذا بالإضافة إلى أنه يعمل بمنزلة نداء أو إشارة لتحذير الأنا من أن هناك شيئًا على وشك الحدوث”[8].
   
مثلّت دراسة “فرويد” للقلق أهمية تاريخية كبيرة؛ كونها أثارت اهتمام كثير من العلماء تجاه الأمر، إلا أن البعض من هؤلاء العلماء لم يستطيعوا تقبل أفكار “فرويد” فيما يتعلق بوجود مشاعر جنسية لاشعورية لدى الرضع والأطفال إزاء والديهم[9]، هذا بخلاف اعتراض البعض على الدقة المنهجية لدى التحليل النفسي الفرويدي نظرًا لاعتماده على الحكم الذاتي للمعالج، والذي يعد عرضة لمجموعة من التحيزات[10]، ولذا فقد طور العديد منهم نظريات بديلة تشرح تطور القلق وأسبابه.

هناك فرق بين شعوري الخوف والقلق باعتبار الأول ذا سبب موضوعي أما الثاني يخرج من مجال إدراك الفرد فلا يعي ما يثير قلقه

 بعيدًا عن الليبيدو
في مساحة أخرى من التحليل النفسي، وبعيدًا عن التفسيرات الليبيدية، يعتبر “ستاك سوليفان” أن القلق أحد المحركات الأولية في حياة الفرد. فهو شعور بنّاء وهدام في الوقت نفسه، إذ أنه، بقدر بسيط، يمكنه تغيير حياة الإنسان وإبعاده عن الخطر، أما القلق الشامل الكلي فإنه يؤدي إلى اضطراب كامل في الشخصية، ويجعل الشخص عاجزًا عن التفكير السليم أو القيام بأي عمل عقلي[11].
ويذهب “إيريك فروم”[12] إلى أن منشأ القلق يعود إلى اللحظة التي يخرج فيها المرء من طفولته الاعتمادية على والديه إلى العالم، فيواجهه بشكل مستقل بصورة تكشف له عن عجزه المبدئي أمام ظروف العالم الخارجي حتى ينزع إلى الاستقلال، وهو هنا يلتقي مع “إيريك إريكسون” ونظريته حول النمو النفسي، إذ يرى الأخير أن الاضطرابات النفسية، ومنها القلق، تنشأ نتيجة لفشل في نمو الأنا نموًا طبيعيًا، وحينها يتعثر المرء في حل أزمات النمو -في مراحله المبكرة- بصورة إيجابية.
  
وهو ما يتقارب بصورة ما مع رؤية “أوتو رانك” للقلق، في صورته الأولية، إذ يراه وجهًا لإحدى صورتين، تستمران مع الفرد في جميع مراحل حياته، وهما خوف الحياة وخوف الموت. فيتمثل خوف الحياة في القلق من التقدم والاستقلال الفردي، بينما يظهر خوف الموت في القلق من التأخر وفقدان الفردية وأن يضيع في المجموع فيفقد استقلاله الفردي ويعود إلى حالة الاعتماد على الغير[13].
ومن التحليل النفسي إلى المدرسة السلوكية، يخبرنا كل من “هيل” و”بيكرون”[14] أن المدرسة السلوكية تنظر للقلق على أنه سلوك متعلم من البيئة المحيطة بالفرد تحت شروط التدعيم الإيجابي والتدعيم السلبي، إذ إن علماء هذه المدرسة لا يؤمنون كثيرًا بالدوافع اللاشعورية الفرويدية، أي أن القلق في النهاية ناتج عن خبرة إنسانية واستجابة سلوكية مكتسبة نتيجة لتلك الخبرة.
لكن، وعلى الرغم من التباين الظاهر بين المدرستين، فإنهما تتفقان في ربط القلق بمصدر قديم في ماضي المرء، كما أنهما يتفقان كذلك في التفرقة بين شعوري الخوف والقلق باعتبار الأول ذا سبب موضوعي في حين أن سبب الثاني يخرج من مجال إدراك الفرد فلا يعي ما يثير قلقه، لكن المدرسة السلوكية تنفرد برؤيتها للقلق باعتباره “استجابة سلوكية متعلمة لخطر غامض أو رد فعل شرطي لمنبه مؤلم”[15].

عند القلق يرتفع ضغط الدم، وتتزايد ضربات القلب، وجحوظ العينين، وأحيانًا تحدث رجفة بالأطراف، وصعوبة بالتنفس

  
فالسلوكيون، وفقًا لـ”حامد الغامدي”، يعتبرون القلق بمثابة استجابة خوف تستثار بمثيرات ليس من شأنها أن تثير هذه الاستجابة، وهو ما يعرف أيضًا بالارتباط الشرطي، فإذا ما أثيرت استجابة المرء نتيجة لمثير مخيف فذلك هو الخوف، أو القلق الموضوعي، لكن إذا حدثت نتيجة لشيء غير مخيف في ذاته -خوف غير موضوعي- فإن القلق حينها يكون غير سوي؛ لكونه نتيجةً لمثير محايد لا يسبب الخوف بنفسه، مما يعني أن القلق استجابة خوف اشتراطية لا يعي الفرد معها المثير الحقيقي الذي سبب له الفزع.
  
وقد طوّر هذا التفسير قدرته، كما يضيف “الغامدي”، مع صعود نظرية التعليم الاجتماعي لـ”باندورا”، والذي أكّد على محورية التفاعل بين متغيرين هامين يتسببان في إنشاء القلق: المثيرات -خاصة الاجتماعية- والسلوك من جهة، والعوامل الشخصية، العقلية المعرفية والانفعالية الوجدانية، من جهة أخرى. بهذا التفاعل يرى “باندورا” أن ظهور القلق مرتبط بحدوث مثيرات غير مرغوبة، شريطة أن يكون لدى المرء استعداد نفسي لظهوره، وقد يتمثل هذا الاستعداد في الصورة السلبية للفرد عن قدراته وذاته.
  
لكن، وكما مرّ على التحليل النفسي من النقد، فإن المدرسة السلوكية لم تسلم من النقد الموجه لها “لتركيزها المبالغ فيه على التعلم والمحددات البيئية وإهمالها للعوامل البيولوجية والمعرفية”[16]. فتذهب النظرية الفسيولوجية إلى أن أعراض القلق النفسي تنشأ من زيادة نشاط الجهاز العصبي اللاإرادي بنوعيه: السمبثاوي والباراسمبثاوي، مما يؤدي لزيادة نسبة الأدرينالين والنورادرينالين في الدم. وعند نشاط الجهاز السمبثاوي فإنه يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم لدى الفرد، وتزايد ضربات القلب، وجحوظ العينين، وزيادة العرق، وجفاف الحلق، وأحيانًا رجفة في الأطراف، وصعوبة في التنفس.
  
أما ظواهر نشاط الجهاز البارسمبثاوي فأهمها كثرة التبول والإسهال، ووقوف الشعر، وزيادة الحركات المعوية مع اضطراب الهضم والشهية والنوم. كما يتميز القلق فسيولوجيًا بدرجة عالية من الانتباه المرضي في وقت الراحة، أي أن الأعراض لا تقل مع استمرار التعرض للإجهاد، نظرًا لصعوبة التكيف لدى مرضى القلق[17].
  

في الحين الذي أكّد البعض على كون القلق والاكتئاب اضطرابين مختلفين وأعراضهم مختلفة، رأى البعض الآخر أن القلق يتطور بشدة ليصبح اكتئابًا

 ويُرجِع باحثون آخرون، حسب “الغامدي”، القلق إلى حساسية مفرطة في الجهاز العصبي اللاإرادي أو خلل في وظيفة ذلك الجهاز مع السيطرة الوظيفية للجهاز اللمبي Lymbic System، أما “ماسلو”، كما يضيف “الغامدي”، فيذكر أن القلق يصاحبه زيادة شاذة في القابلية للاستثارة في كل من الجهازين اللاإرادي والعصبي المركزي. أي أن “المريض المصاب بالقلق يستجيب لمواقف الحياة اليومية العادية كما لو كانت طوارئ أو مواطن خطورة”[18].
كما تشارك النظرية المعرفية في الأمر بتفسيرها لانفعالات الأفراد على أنها نتاج لطريقتهم في التفكير، فهي ترفض اعتبار اللاشعور كمصدر للاضطراب النفسي كما ترى مدرسة التحليل النفسي، وكذا لا تقبل ما تنادي به المدرسة السلوكية بكون القلق محض استجابة شرطية للمثيرات، إذ يرى”آرون بيك” أن ردود الفعل الانفعالية ليست استجابات مباشرةً ولا تلقائيةً للمثير الخارجي وإنما يجري تحليله أولًا من خلال النظام المعرفي للفرد، وعلى ذلك يتحدد حضور الاضطراب النفسي من عدمه، وفقًا لاتفاق المثير مع منظومة المرء المعرفية أو اختلافه.
  
بكلمات أخرى، يرى “بيك” أن “الاضطرابات النفسية تنشأ كنتيجة لعدم الاتساق بين النظام المعرفي الداخلي للفرد، وبين المثيرات الخارجية التي يتعرض لها ذلك الفرد، وتحليلها وتفسيرها عن طريق ذلك النظام المعرفي الداخلي الذي يميزه، ويبدأ في الاستجابة للمواقف والأحداث المختلفة انطلاقاً من تلك المعاني التي يعطيها لها”[19].
  
وقد يختلف رد الفعل تجاه الموقف الواحد بين مجموعة من الأفراد، لاختلاف نماذجهم المعرفية، كما تختلف من جانب الفرد نفسه في أوقات مختلفة. كذلك، كما يشرح “الغامدي”، فإن كل موقف أو حدث “يكتسب معنىً خاصًا، يحدد استجابة الفرد الانفعالية تجاهه، وتتوقف طبيعة الاستجابة الانفعالية أو الاضطراب الانفعالي لدى الفرد على إدراكه لذلك الموقف أو الحدث”. ولهذا تقود الأفكار الخاطئة لدى الفرد عن حياته وتصوراته إلى سلوكيات خاطئة، مما يترتب على ذلك ظهور القلق الذي يوجد لديه.
لأن للأمر آثاره
في عام 1966م، قام عالم النفس وخبير أبحاث الضغط النفسي “سبيلبرغر” بتتبع مجموعة من الطلاب الجامعيين لمدة ثلاثة سنوات متتالية، ليجد أن أكثر من 20% من الطلاب ذوي القلق المرتفع صُنِّفوا على أنهم فاشلون أكاديميًا، مما أدى لفصلهم، في مقابل 6% من الطلبة ذوي القلق المنخفض، الأمر الذي خلص منه “سبيلبرغر” إلى وجود معاناة صحية وعقلية لدى الطلاب ذوي القلق المرتفع، بالإضافة لتأثرهم بصورة نفسية جسمية تؤثر في أدائهم العلمي[20].
وقد ركّزت الدراسات السيكولوجية جهودها في وقت متأخر من ثمانينيات القرن الماضي لدراسة العلاقة بين القلق والاضطرابات النفسية الأخرى التي يلتقي معها في طريقه، كالاكتئاب مثلًا، بهدف الكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بينهما، في كل من مراحل البلوغ والمراهقة، وكذا تأثيرات كل من حالات القلق وسمته على النفس البشرية وعلاقته بالاكتئاب[21].
ولفصل المصطلحين، يمكن تعريف حالة القلق بأنها خبرة انفعالية غير سارة، يعاني منها المرء عند شعوره بخوف أو تهديد من شيء لا يمكن تحديده على وضع الدقة، في حين تشير سمة القلق إلى استعداد أو قابلية الشخص الثابتة نسبيًا والتي تدفعه للاستجابة للمواقف المُدركة باعتبارها مواقف خطرة ومهددة[22].
وقد اختلفت الدراسات الإكلينيكية حول العلاقة بين كل من القلق والاكتئاب، ففي الحين الذي أكّد فيه البعض على كونهما اضطرابين مختلفين لهما أعراض مختلفة، رأى البعض الآخر أن القلق يتطور بشدة ليصبح اكتئابًا، ويؤكدون هذا الرأي بقولهم أن القلق يقترن بصورة متكررة بالاكتئاب، كما يوضح الدكتور “أحمد عكاشة” أن من أهم الأمراض التي تصاحب القلق هي الاضطرابات العصابية كالهيستيريا والاكتئاب[23].
  
وقد أشارت دراسة “بدر الأنصاري”[24] عن علاقة متقاربة بين الحالتين بوجود غلبة أنثوية على الذكور. كما أظهرت دراسة “بيتر بايلنغ” وآخرون[25] أن المفحوصين الذين حصلوا على درجات عالية على اختبار سمة القلق حصلوا على درجات عالية في اختبار الاكتئاب، مما يدل على وجود علاقة ارتباطية موجبة بين سمة القلق وبين الاكتئاب.

 إذا كان هناك أي جزء من الدماغ يبعث بإشارات أنك تتعرض للتهديد، تغلبْ على الخوف من خلال التحدث بلطف إلى نفسك

 لكن هل ثمة خروج من هذا المأزق؟ ربما كانت الإجابة في الفحص الإكلينيكي والعلاج النفسي، في حال كان القلق مرضيًا عند صاحبه، لكن “أبراهام ماوسلو” و”كارل روجرز” يريان أن التخلص من القلق يبدأ من محاولة التطابق بين الذات والخبرة، “والذات تشير إلى الصورة التي يكونها الإنسان عن نفسه، أما الخبرة فهي التي تنشأ من تقدير وتعامل الآخرين، فإن تناغمتا -الذات والخبرة- أصبح الشخص متحررًا من التوتر الداخلي -القلق- فيظهر التوافق المنشود”[26].
   
ويضع الكاتب “مارسيل شوانتيس” مجموعة من النصائح التي قد تساعد في التغلب على هذا الشعور، أو التعامل معه بصورة نافعة، تبدأ من التركيز على حقيقة القلق العصابي الأولى: لا شيء مخيف يحدث بالفعل، وأن ما تشعر به إما لسبب كامن في اللاشعور، أو هو استجابة شرطية لمؤثر ما غير حقيقي، أو نتاج اضطراب معرفي.. أو أي ما كان صحيحًا من النماذج المفسرة للقلق، المهم هو أن ما أنت فيه لا يدعو بالفعل للخوف.
ويقول الكاتب الأمريكي أن التدرب على هذا الأسلوب “يبعث رسالة إلى الدماغ أنك في الواقع لست في خطر، وفي المقابل سيضع جسمك في حالة استرخاء بدلًا من حالة القتال أو الهرب. إذا كان هناك أي جزء من الدماغ يبعث بإشارات أنك تتعرض للتهديد (بينما في الواقع هذا غير صحيح)، تغلبْ على الخوف من خلال التحدث بلطف إلى نفسك للخروج من هذه الحالة. اقنع ذلك الجزء من الدماغ الذي يجعلك في وضع القتال أو الهرب، أنك بخير”[27].
   

القلق قد يحدث أحيانًا لمحاولة السيطرة على الأشخاص والأشياء والمواقف التي قد تكون خارجة عن السيطرة الذاتية للمرء

 كما يرى “شوانتيس” أن تغيير الأجواء المحيطة بالذات قد يساعد في خفض حالة القلق الحادثة، كما أن تدوين الموقف الحادث ومعه الأفكار التي تدور في الذهن حينها، بالإضافة لرصد مقدار القلق الذي يشعر به المرء، هذه المحاور الثلاثة ستضع للفرد رصدًا موضوعيًا لحالته مما يُمكّنه من التعامل معها حسب ما تقتضيه الظروف، وكذا يشرِّح له الحالة بوضوح: هل هذا اضطراب موضوعي يزول بمزيل المثير، أم إنه قلق عصابي يحتاج التعامل معه؟
  
وفي نصيحة أخيرة، يرى “مارسيل” أن القلق قد يحدث أحيانًا لمحاولة السيطرة على الأشخاص والأشياء والمواقف التي قد تكون خارجة عن السيطرة الذاتية للمرء؛ لذا يرى أن “إدراك أنك غير قادر ولا يجب عليك السيطرة على كل شيء وإطلاق سراح مخاوفك سيساعدك على التحكم في عواطفك بشكل أفضل”. ويضيف “مات تيني” في كتابه “حافة العقلانية” قائلًا: “إننا ندرب وعينا لنصبح أقل تشتتًا بسبب تفكيرنا، ما يسمح لنا بأن نستمتع بحياتنا أكثر، وأن نكون أكثر حضورًا مع الناس، وأن نَرى العالم، الداخلي والخارجي، بوضوح أكثر”.
  
في النهاية، يبدو القلق ذا أهمية سيكولوجية تأسيسية، دفعت الكثير من المدارس النفسية لمحاولة شرحه، ومن ثم تحجيمه بالشكل الصحيح حسب منظومتها. كما أنه لا يقف عند ذاته في كثير من الأحيان، متجاوزًا حدود المخاوف لما هو أكبر، فهو متأثر بغيره من الاضطرابات العصابية والنفسية -كالاكتئاب- تارة، ومؤثر عليها تارة أخرى. وما بين التجارب الذاتية والدراسات الموضوعية تبرز العديد من الحلول، الأمر الذي يعطينا -استنتاجًا من كل ذلك- دلالةً واضحةً على أهمية الفهم الجيد؛ لأن الحلول تبدو أيسر سبيلًا مع إدراك المعضلات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى