الأخبار الآن

رمضان فى مصر .. شكل تانى: أسيوط .. ليالى الشهر الفضيل فى ذاكرة ادرويشب

كان لجدتى «لهلوبة» «خوخة» ككل كبيرات البيوت الكبيرة.. تغلق قفلها على ما تود أن تبعد عنه أيدى الصغار والكبار أيضا.. من نقود.. وحلي.. ومواد غذائية نادرة مثل السكر والبن وقمر الدين والبخور والتمر هندي.. وغير ذلك. فاذا فتحتها انتشرت رائحة مميزة تجذب خياشيمنا ..!!وكانت جدتى تخزن بخوختها «فصوص العيش القمح» الذى تدخره لطارئ الخطار.. أى الضيوف الذين يطبون كالموت.. حسب تعبيرها.

مخزون جدتى

كان مخزون جدتى من الفصوص بمثابة «المخزون الإستراتيجي» لكل نساء البوابة الكبيرة.. يلجأن إليها فى الطوارئ، لتقرضهن بعض الفصوص لعمل « الفتة « للخطار أو الضيوف الأغراب. بل تلجأ إلى جدتى نساء من عائلات أخرى بعيدة كبيت «حبوب « فى شمال القرية أو «الخزاعلة» فى الجنوب.

كنت أسمى خوخة جدتى «خوخة رمضان» لأن جدتى كانت تدخر بها أقماع وبلاطات السكر اللذيذ، وزهور»العرديب» أو ما نسميه «الكركديه»، ولفائف «قمر الدين». و»قرون التمر هندي» فاذا ثبتت الرؤية وطاف الصبية دروب القرية مهللين هاتفين:

«هل هلالك.. يارمضان

شهر مبارك  يا رمضان

ما اسعد من صامك يا رمضان»

فتحت جدتى «خوخة رمضان» لتخرج لنا منها قطعا من السكر تكسر منها بحرص من أقماع السكر المغلفة بالورق البني، فتخرج القمع وتضعه فى حجرها ثم تضرب طرفه بقطعة من الحجر الصوان، أو بيد الهون النحاس الثقيلة، وتقسمه قطعا بعدد أيام الشهر الكريم.. ولأن الوقت بعد العشاء.. يشع موضع الطرق على أقماع السكر بضوء أبيض لافت.. يجذب أنظارنا نحن الأطفال فنسرع إليها.. فتعطينا بعض الفتات الذى صاحب عملية الكسر.  

بعد أن تأخذ بعض ما اقتطعته، وتأخذ حصة اليوم من «العرديب» و»قمر الدين» أو  «التمر هندي» لتنبذه فى الماء لمغرب اليوم الأول، ليكون إفطار الصائمين، ومتعة غير الصائمين من أطفال البيت.

تخزين البلح والعجوة

أما التمر أو البلح فلم تكن جدتى تخزنه فى «خوخة رمضان».. بل له مخازن خاصة: كان التمر الصلب يخزن فى الصوامع.. أما «العجوة» أو الرطب فقد كانت تكبسه فى جرار فخارية تسمى «الزلوية» وهو نوع من الفخار غير مسامى تستخدم لتخزين السمن البلدى أو العسل أو العجوة.

 فاذا اقترب موعد آذان المغرب، صعد جدي»النص معتوق» أو «عبدالقوي» على حائط جامع الشيخ جابر «المسجد الوحيد بالقرية»، ليرقب مغيب الشمس، فاذا تلون الأفق الغربى باللون القرمزى أو كاد أطلق «الله أكبر»، لترج القرية صيحة الفرح من أطفال القرية بنين وبنات.. وترتفع سحب الغبار تغطى مداخل الدروب خلف أقدامهم الحافية حتى أبواب البيوت. عندها تكون النسوة قد وضعت «الطبالي» جمع طبلية، وهى الخوان الصغير، وتراصت عليها أطباق «الكشك» والتمر وربما أكواب «العرديب» أو «التمر هندي» أو عصير الليمون.. وقد تزين بـ»شفاشق قمر الدين» جمع شفشق وهى دوارق زجاجية ملونة توضع بها العصائر.. وكانت جدتى تتصدى بنفسها لصب القليل من «قمر الدين» أو «التمر هندي» فى الكوب الوحيد وهى تردد دعاءها السنوى «ربنا يجعلنا من صوامك يا رمضان» وتبدأ بالصغار.. فإذا انتهت منا لنهدأ، ملأت أكواب الكبار.. بعد أن يكون الصائمون قد شقوا صيامهم بتمرة أو تمرتين.. وقد تحضر أمى وخالاتى الأصغر مراسم «الفطار».. وقد ينشغلن بتسخين أو صب الطبيخ.. وسرعان ما يلحقن بنا حول الطبلية الكبيرة..

عمايل العفاريت

لا فرق يذكر بين طعام الإفطار وطعام السحور فى قرانا اللهم إلا فى وجود «الزفر» فى طعام السحور فى بعض الليالي، فمعظم الرجال يقومون للعمل فى الحقول مبكراً ويحتاجون طعاما «يسند قلبهم» طوال النهار. من هنا كنا نتواصى نحن الصغار ونتعاهد على أن يوقظ بعضنا بعضا للسحور.. لننال نصيبنا من اللحوم التى توزعها جدتى على المتسحرين فى بعض الأيام.. وعادة ما تكون لحم طير فى غير أيام السوق.. فلم يكن جزارو قرانا يذبحون الذبائح إلا فى المناسبات، ويوم السوق من كل أسبوع.. وهو يوم يختلف من قرية إلى أخرى أو من مجموعة قرى إلى مجموعة أخري، حسب يوم السوق المتعارف عليه.. وكانت قريتنا تتسوق يوم السبت فى «سوق الرياينة» أو «العقال القبلي».. وإن كان البعض يرتاد «سوق الأربع» فى «طما» أو «سوق الاثنين» فى البداري.

لكى أضمن استيقاظى فى السحور تفتق ذهنى بعد المداولة مع شقيقى ألفى ورشدى على العديد من الحيل منها مثلا أن يقوم أخى الأصغر الذى ينام فى باط أمه.. بربط ذيل ثوبه فى طرحتها فاذا نهضت لتعد السحور.. جذبت طرحتها فتشد ثوب «رشدي»  فيستيقظ ويتولى هو ايقاظنا.. وقد اضحكت تلك الحيلة جدى عبد الغتى طويلا.. فهز رأسه متعجبا من «عمايل العفاريت» وطلب من أمى أن توقظنا كل سحور.

الجوع والعطش

إن كان رمضان يمر بمشاقه وعطشه على الكبار كأنه الدهر، فإنه يمر علينا نحن الصغار كالطياب أو الريح الرخية. فالمناضر الساهرة لقراءة القرآن تنير لنا الرهبات الواسعة بل والشوارع المحيطة بأنوار»الكلوبات» مما يتيح لنا ممارسة ألعابنا الصاخبة مثل «دارت» و»حيتك» و»العضماية» بل و»أول حول».. وقد يخرج أحد الرجال من المنضرة لينهرنا ويذكرنا بحرمة عدم الاستماع إلى القرآن الذى يتلى فى المنضرة.. نتوقف قليلا.. لكننا سرعان ما نعود إلى صخبنا الممتع.

أما نهار رمضان فكنت استمتع به بطريقتي.. ففى رمضان يكثر الشحاذون الطوافون على الأبواب ، وكان لهم طرائقهم البديعة فى استجداء النسوة فى البيوت، ولهم غناء ساحر حفظت بعضه ..وسقط من ذاكرتى جله. فهذا «شايل الحملة» يعلق على عصاه العشرات من الحرد ومناديل الرأس الملونة بل وقطع من الملابس النسائية الداخلية والأحجبة. وهذا  «المبخراتي» الذى يجوث خلال البيون ناشرا عطر بخوره فى الدروب ..والصلاة على النبى

فى الأسماع …. وغيره كثير.

أما أعجب أساليب الشحاذة فقد رأيته فى قريتنا لمرة أو مرتين ، وكان الشحاذ شاب فوق العشرين، عارى الجسم إلا من لباس جمالى مربوط فى وسطه، مفتول العضلات، أشبه بأبطال كمال الأجسام الذين نعرفهم اليوم ، تكاد النسوة يأكلنه بأعينهن لولا الصيام.. وكان الرجل يحمل فى يده قطعة من الحجر الصوان، يدق بها عضلات صدره البارزة ، فيصدر عن صوت الدق وتأوه الرجل المصاحب فحيحا يذيب حتى القلوب القاسية، وهو يقول:

إدونى حقى  لأوقع قلبى.. كريم يا رب

بين شهقات النسوة المشفقات، تمتد الأيدى بالخبز وحفان الغلةـ وبعض التمر، ليتلقفها صبى يصاحب الرجل، ويدسها فى أجوله يحملها على ظهره. وقد استلب لبى أحدهم، فتابعته حتى شق كل دروب القرية وامتلأت أجولته بالتمر والغلة والخبز. وقبل أن يغادر القرية، توقف فى ظل السنط بعد الكوبري، فخرج له تاجر حبوب معروف فى القرية فاشترى منه كل ما جمع ، وغادر الرجل المفتول العضلات قريتنا راضيا عنا وعن نفسه.

أظننى وحتى اليوم أشعر بالفرح كلما سمعت هذا الدعاء.. لأننا كنا نتبادله فى قريتنا صباح كل عيد. وأظنه لازم أجدادنا وآباءنا وهم فى طريقهم من باب جامع الشيخ جابر إلى «الجبانة» فى طلعة العيد. والجبانة فى قريتنا «الهمامية» تبدو امتداداً مكانيا للمقابر الفرعونية التى احتلت أعلى الهضبة وتركت سفوحها لمدافن الأحفاد.

«أحياك الله وأبقاك.. وتعيش لكل عام.. وزى اليومين دول تكون ف باطك العروسه..». دعوات ما تزال تعلق بذهني.. وربما دعوت بها لأبنائى أو أحفادي.. إنه العيد.. وخاصة عيد رمضان.

> ولرمضان وعيده فرحة خاصة فى القرى المصرية.. وفى قريتنا.. تبدأ ملامح تلك الفرحة من ليلة «الشك».. حين يكبر جدى النص أو جدى عبدالقوي، من فوق حائط جامع الشيخ جابر الذى لم تكن له مئذنة كجامع الفرغل مثلاً.. بل يرتقى المؤذن الحائط مكبراً بعد أن يتأكد من المذياع «راديو معز» الرسمي، أن غداً أول أيام رمضان المبارك. حينها تتعالى أصواتنا نحن العيال بالأهازيج الخاصة برمضان ونحن نستحضر طعم قمر الدين والكنافة والعناب والتين والزبيب لا ألسنتنا ، بل نكاد نشمها فعلاً.. ونقطع رهبات القرية جيئة وذهابا صائحين:

يا رمضان يا أبوشخليلة

أول سحورك الليلة

يا رمضان يا عود كبريت

يا مقيد كل العفاريت

طالما قيدت العفاريت فلا خوف من الليل.. ونستطيع رغم الظلام أن نمارس ألعابنا واسمارنا المبهجة. ويستطيع الرجال الانتظام فى الصلاة على غير العادة ، خاصة صلاة التراويح. والعودة إلى مناضر العائلات للاستماع إلى القرآن الكريم، الذى يتلوه شيخ حسن الصوت مستأجر»للسهرة». وتتبارى العائلات فى استئجار المشايخ أصحاب الصيت والصوت الحسن لإحياء ليالى رمضان عندهم.

تمضى ليالى رمضان بطقوسها الهنيئة ، كما تمضى نهارات رمضان الشاقة ، فلا سبيل فى قرانا

للركون للراحة والظل فى نهار رمضان ، بل هو نهار ككل النهارات ، وخاصة فى الصيف والدميرة ، عذاب يقارب ما يصوره الفقهاء عن يوم الحشر من الحر والعرق والعطش. وها هى عشرات رمضان تمر.. «عشرة المرق».. تليها «عشرة الحلق».. ثم «عشرة الخلق».. فى العشرة الأولى تستعرض النسوة مهارتهن فى إعداد وجبات الإفطار والسحور لأهل البيت؛ وخاصة طبيخ «المرق أو التقلية» الشهير.. فاذا جاءت عشرة الحلق تجهزن للخبز وعمل الكعك والمخمر والبسكويت، فتبدأ النساء فى سرب القمح، وتنميشه، وإرساله إلى الطاحون ، ثم يقمن بنخله أو «تحليلة»، ليصبح جاهزاً للعجن. وهذا أمر قد يستغرق الأيام الكثيرة ، وعادة ما يؤخر الخبز الفعلى للأسبوع الأخير من رمضان ، ليظل الكعك «الحلق» والمخمر «القرص» طريا. وتلك المخبوزات من أطعمة العيد ادخل فى مكونات «الخلطة» التى تقدم فى «فطرة رمضان».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى